الأحد، 17 أغسطس 2008

الحاجة سكر عظمة على عظمة يا ست

كثيرة هي المرات التي يصدق فيها حدسي تجاه الرحلة ، وكأن هناك بعض المؤشرات من البداية كما في أحد أفلام الرعب الشهيرة ، حيث ترى البطلة بعض المؤشرات التي تدل على وقوع الحادث الرهيب ، فتتنبأ به وتغادر و تنجو ، كنت أحدث نفسي بذلك ، و قد قررت العودة إلى المنزل بالترام الزرقاء بدلا من التاكسي ، تاكسيات الإسكندرية أصبحت عبارة عن هياكل معدنية صدئة ومهترئة ، مقبض النافذة الدوار مخلوع أو مكسور فلا تتمكن من فتح أو غلق النافذة ، السائقين أنفسهم كأنهم في سباق محموم مع الآخر ، سواء كان سيارة أخرى أو إشارة ضوئية أو خصم متخيل يحول الرحلة إلى ما يشبه ركوب قطار الموت في مدينة الملاهي ، درجة الرطوبة عالية والزحام شديد فالغزو الصيفي في أوجه خاصة أن اقتراب رمضان جعل الجميع يهرع إلى الإسكندرية في نفس الوقت تقريبا فلم تعد تجد موطئا لقدم أو حتى ذراع ، ركبت الترام من محطة الرمل أول الخط ، لأضمن الحصول على مقعد شاغر وياسلام لو كان بجوار النافذة ، حصلت على مبتغاي ، أردت تأمل الميدان من النافذة ، و أنا أتذكر رحلتي الأخيرة بالطائرة إلى الإسكندرية، وقد قررت الكتابة عنها فورا بعنوان " كيفية السفر مع مصر للطيران " ، لمحت شخصا يقف بجوار عربة النساء التي أركبها ويرسل نظراته نحو من فيها فأشحت بوجهي للداخل أتأمل الراكبات ، بترددي المعتاد ظلت تلح علي فكرة النزول من الترام والذهاب لطبيب الأسنان القريب ، لينقذ ما يمكن إنقاذه ،لكنني خشيت من السير وحدي في وجود ذلك المتربص في الطريق . لماذا التردد ؟!، لماذا أظل دائما متأرجحة بين فكرتين تلحان بنفس القدر من الضراوة دون القدرة على الاختيار والتنفيذ ، كنت بداخلي أتمنى أن تتحرك الترام حتى تريحني من عناء الاختيار الصعب حين التقت عينانا ، سيدة تجلس في المقعد المقابل لي تماما ، عجوز في أوائل الستينات تقريبا ، بعباءة سوداء وإيشارب أبيض معقود من الأمام على صدرها ، وابتسامة تملأ الوجه كله ، نظراتها التي توزعها بين الجميع ، شفتاها المنفرجتان المتأهبتان للحديث فورا ، كل هذا جعلني أنتبه لها وأطلق أفكاري نحوها ، صاحت سيدة في مقدمة الترام تنهر الرجل المتطلع بالخارج " الراجل المجنون واقف وفاتح ...... "
ردت عليها سيدة أخرى " معلش يا أختي أكيد مجنون .. ماهو ما فيش حد عاقل يعمل كده .
الشفتان المنفرجتان المتأهبتان شرعتا في الحركة فورا وكان أحدا ضغط على زر الإطلاق " معلش الدنيا اتغيرت ، الناس ماكانتش كده ، كانوا حلوين مع بعض كده وطيبين ، مسكين ربنا يهدي العاصي "
أشارت سيدة بالخمار التقليدي وقسمات التعب المعتادة لابنتها المراهقة كي تجلس ، فردت الفتاة بأنها تفضل الوقوف هربا من الحر ، مصمصت الأم بشفتيها وقالت دون توجيه الكلام لشخص بعينه " إمتى أجوزك وأرتاح منك . كان هذا مؤشرا جديدا للعجوز كي تتكلم بلا انقطاع بابتسامة حلوة ونظرات موزعة بين الجميع بالتساوي صحبتها تربيتات بكفها على الأكتاف والأفخاذ المنتشرة حولها
" فكرك يا أختي لما نجوزوهم حنرتاح منهم ، حنفضل برضه شايلين همهم وهم عيالهم "

كان المحصل قد بدأ في توزيع التذاكر ، الفتاة الجالسة بجواري أعطته عشرة جنيهات كاملة فأخبرها أنه سيكمل تحصيل النقود ثم يعود لها بالباقي ، قبل أن ترد الفتاة ردت العجوز المتكلمة " ماشي يا خويا " كنت مازلت خائفة من المتحرش خارج الترام أخشى أن يمد يده من النافذة تجاهي ، وقد أصبحت فكرة النزول وركوب التاكسي أكثر أمانا ، مرة أخرى أتمنى أن تتحرك الترام بسرعة ، أعرف أنني لن أتخذ القرار بالمغادرة ولن أنفذه . بينما العجوز تكمل الحديث والحكي وقد استطاعت أن تصنع من نفسها مركزا للاهتمام ، " عندي صابر ومنى ولادي ، ماعنديش تليفون عادي بس ابني جابلي البتاع الصغير دا مش عارفة أقول اسمه وعلمني أستعمله رقم 2 ابنك وتلاتة بنتك ، والنبي ابني صابر دا طيب ومافيش زيه ، مافيش حد عندنا اسمه صابر ، وأنا بأولده في مستشفى الولادة دي مش عارفة أقول اسمها "ماترنيه " الممرضة قالت لي على اسم جده قلت لها لأ صابر عشان يبقى راضي ويرضى بنصيبه والنبي يا ختي الرضا حلو ، وهو حنين وطيب ، لما يجيلي كده يلاقيني مشغلة أم كلثوم وبأسمعها يقول لي وليه الهم بس ، أقوله هم إيه دي أم كلثوم دا اللي ماسمعش غناها يبقى لا حب ولا عرف طعم الحب ، يقوللي يعني والحب كان عاملك إيه ، قصده على أبوه يعني ، منه لله بقى الله يسامحه أقول له الحب عمل لي أحلى حاجة ولادي صابر ومنى ، ما أنا لما جيت أتجوز قلت أنا مش عايزة فرح ، أنا عايزة أحضر حفلة الست أم كلثوم ، ماهي كانت بتعمل حفلتين حفلة في القاهرة متذاعة وحفلة تانية هنا في " الهمبرة" مش متذاعة وأنا رحت بقى أحضر حفلة الهمبرة وإيه متشيكة على الآخر ، وبعدين لقيت لواءات وناس عظام _ ما عظيم إلا الله _ وستات حلوة بالفريرات أنا كمان كنت متشيكة قعدت أسمع بقى وهي الست تغني وتعيد ما هي كانت دايما تعيد والناس بتسقف جامد جامد وبعدين شاورت بمنديلها كده راحت الموسيقى كلها سكتت وقعد يعزف لوحده عبده صالح على القانون ، عزفه كان حلو قوي والناس كل شوية تطلب منه يعيد ، وأنا بقى بحب أسمع أم كلثوم لحد دلوقت ، وأطلع كده من الشباك أبص على العيال اللي بيلعبوا وأرش ميه ، وأنادي على الجيران اللي حواليا وأقولهم ما بتسألوش عليا ليه يا غجر يقولوا ما إحنا سامعين حسك و مطمنين عليك ، يا اختي الفرحان كتير الأيام دي ، أفراح كده في كل حتة ، رمضان جي والعيد خير وبركة بس مش زي زمان ، ولمة زمان ، وأفراح المسيحيين ما أنا جيراني مسحيين كتير وكنا بنزور بعض ياختي ونروح ونيجي ماحدش بيزعل التاني ما الرسول قال لكم دينكم وليا ديني ، أنا ساكنة في "الجواهر " بس رايحة "باكوس " أزور واحدة حبيبتي ، تقول لي يا أم صابر مش تقولي إنك جاية عشان نعمل حسابنا أقول لها يا أختي أي حاجة أي أكلة هنية ، والنبي الأكل زمان كان فيه بركة كنا لما نعمل أكلة حلوة كد نقول ياترى مين يجي يأكل معانا مش دلوقت يا أختي اللي بقوا بيخبوا الفلافل . .......
أقولكم على اسمي الحقيقي والنبي أنا اسمي حلو ... اسمي حلو قوي ومدلع نفسه
.. " سكر " .. أصلي كنت آخر العنقود فسموني سكر .
كنت قد نسيت المتحرش تماما وتمنيت في لحظة أن تستمر رحلة الترام إلى ما لانهاية مع الحاجة " سكر " التي بددت الحر والرطوبة وأزاحت القلق بقدرتها على إدخال الجميع في عالمها الخاص ، طريقتها للتغلب على الوحدة والشيخوخة وحتى الذكريات السيئة عن زوجها الراحل ، كان اختيار الترام موفقا تماما رغم أنني لم أمارس هوايتي المفضلة في القراءة أو متابعة الطريق واللافتات والعمارات القديمة ، وأماكن الذكريات ، وترتيب سيناريو رحلة الطائرة حتى وجدت نفسي مضطرة للنزول مودعة سكر ومحتفظة بروحها الحلوة داخلي ، بينما هي تكمل حديثها الحلو دون أن تكترث لنزولي فستجد حتما بديلا تكمل معه الحوار، تخيلتها تتحدث حتى والترام كلها فارغة ، ربما توجه الحديث للسائق أو المحصل ، لكنها ستكمل وتروي وتتذكر وتبتسم .

جيهان عبد العزيز
الإسكندرية 11/8/2008




الجمعة، 13 يونيو 2008

لماذا كل هذا الحنين؟؟







ومن مزايا الغربة أنها منحتنا تلك الفرص للقاء ، والعمل على مشروع جماعي ، ولو كان هو فكرة تلك المدونة الجماعية " إبراهيم ، جيهان ، خالد ، مهاب ، ياسر " _ تبعا للترتيب الأبجدي _ فرصة لم تكن لتتاح بيسر في مصر ، حيث الغوص في المقلاة خمسون ساعة في الأربعة وعشرين ساعة اليومية .
أو التآكل بفعل التفاصيل الصغيرة اليومية المتكررة التي تقرض فينا طوال الساعات والدقائق .
سأعود لتجربتي الشخصية، السفر بالنسبة لي كان حلما منذ الصغر، كنت دائما أتخيل نفسي في أماكن أخرى ومع أشخاص آخرين أتحدث بلغات مختلفة ، تمنيت أن تكون دراستي الجامعية بمحافظة أخرى كي أسكن ببيت الطالبات، كان البيت/الوطن ، مرادفا بالنسبة لي للكبت وعدم التقدير، وأحيانا للامتهان ، كانت كل فرصة للمبيت خارجه فرصة للحرية، لأخذ نفس عميق بلا شروط ولا مراقبة ، ما المعضلة الكبرى "عقدة أوديب "، أم كوني الثانية بعد أخ أكبر كان هو العالم كله بالنسبة لوالدة تمتلك زمام الأمور، ووالد غائب حتى في الحضور . أخ هو الفلك الذي تدور حوله الحياة ، أما كل الآخرين فمجرد ظلال باهتة ، أحيانا لا ترى أو تسمع بالمرة . لذا كان كل تحين لأي فرصة للانفلات، بيت جدتي ، خالتي ، حتى جارتي "رانيا " أقضي معها كل وقتي في المنزل أسهر معها حتى تبدأ والدتي في إرسال المراسيل لي ( خلي عندك دم بقى واطلعي ) .
فأطلع لأقضي أوقاتا كثيرة بلا تبادل أي حوار مع أي منهم ، مكونة عالما خاصا بديلا يمنحني هروبا جزئيا فلا أعود معهم ، عالم القصص والروايات ، أمكنة وأزمنة سفري وانفلاتي الأول ، بمجرد دخولي عالم القصة كانت الجدران الأربع تختفي ، أصوات نقاشاتهم حولي تخفت تدريجيا ، أجد نفسي مرة في غابة إيطالية مع أبطال " حلم ليلة صيف " ، أو " أجدني ضاحكة متهكمة من أحد أفراد الموساد وأنا أراقب " أدهم صبري " يشبعه ضربا ، أو ربما أحاول اكتشاف حل أحد ألغاز " المغامرين الخمسة " أو الثلاثة أو غيرهم ، في الواقع ، أتذكر رحلتي إلى "بلطيم " و " عزبة البرج " مع "عامر وعارف وعالية " الكارتة التي يجرها الحصان ، والأكواخ الخوص في عزبة البرج ، الأضواء والمياه ، صوت خرير الماء والهواء البارد في الليل على الشاطئ .
أدعي أنني رأيت وأحسست بكل ذلك ، فجأة ينتهي كل شيء ، تذوب الصورة وتعود الأركان الأربع ، وأصوات المشاجرات والصياح ، أنتبه على يد تلكزني ، تناوب الجميع مناداتي ، دون أن انتبه ، كيف لا يدركن أنني كنت فعلا في مكان آخر ، في المساء حين تطفأ كل الأنوار ، وينتهي إرسال التلفاز ، أعاني من أرق مزمن ربما لأن كل أحداث اليوم غير العادلة تمر كشريط سينمائي يحمل مشهدا واحدا يتكرر بلا نهاية ، أتقلب يمنة ويسرة في يأس ، - ممنوع إشعال الضوء- لأتمكن من القراءة حتى أنام ، كيف يأتيني النوم ولم أكمل أحدث القصة بعد ، لم أعرف مصير " منى توفيق " في أسر الجستابو ، أغمض عيني ، أكمل أحداث القصة بنفسي ..... أنام .
في أوقات أخرى لم أكن أستطيع النوم حتى أتخيل نفسي وقد سافرت لمكان آخر ، مبتكرة مشاهدا سينمائية مبتكرة ، كانت أمريكا هي الحلم قديما ، فجأة كنت هناك، فقط هناك كيف وصلت؟! لم يكن مهما لم يكن هناك أي تخيل لرحلة الطائرة أو غيرها ، فقط أنا في أحد الشوارع الأمريكية ، أتحدث بالإنجليزية مع إحدى الأسر ، يعرضون علي العيش معهم إلى الأبد ، أبتسم وأنام .
في الصف الرابع الابتدائي ، اضطرت أمي لتركي وحدي في المستشفى ، لتعود إلى البيت تحضر بعض أغراض ليلتنا التي سنبيتها لأجري عملية "اللوز " ، كانت تخشى أن تعود فتجدني باكية ،خائفة من المكان المليء بالأغراب ، عادت أمي فوجدت كل من بالعنبر الكبير ملتفا حول فراشي ، الذي اعتليته كخشبة مسرح ، مقلدة " عم أيوب " .
هذه هي أنا منطلقة تماما خارج أسوار المنزل ، شخصية أخرى تماما ،
ويتكرر نفس المشهد حين يلتوى كاحلي في الجامعة ، فأطرب حين يمنحني الطبيب ليلة للمبيت في المشفى ، وحدي هذه المرة ، آلامي الجسدية كانت تتضاءل أمام فرص الانفلات والمغامرة مهما كانت صغيرة
لهذا كان السؤال الذي يحاصرني دائما ، أيهما أهون وأقل وطأة على النفس ؟؟ ، الاغتراب المفروض قسرا بين من كانوا من المفترض أن يكونوا هم أقرب الناس ، أم الاغتراب الاختياري ؟!.
كان علي دائما البحث عن وطن بديل ، كما أشار "ياسر" إلى السؤال ، يعني إيه كلمة وطن ؟؟
هل هو الجيران المزعجون ، أم زملاء العمل الذين يترصدون كل الفرص للإطاحة بي ، بمعارك شريفة وغير شريفة .
في المناقشة أشار" إبراهيم" إلى أن السبب المادي ليس دافعا كبيرا للارتحال، وأننا ببعض الكفاح في الوطن نستطيع تأمين حياة مادية معقولة .
أي كفاح يقصد ؟ هل هو كفاح سنين الانكباب على مذاكرة مناهج عقيمة للحصول على مجموع يدخل الجامعة ، ثم التخرج والعمل من السادسة صباحا للعاشرة مساء لمدة خمس سنوات كانت حصيلتها ألفي جنيه لم يكفيا حتى مصاريف السفر ؟
لماذا ذكرت كل ذلك ؟
ربما لأشارك "ياسر " التأكيد على تلك المعضلة
أو الإجابة عن سؤال يحيرني ؟
إذا كانت مصر بالنسبة لي تحمل كل هذا الكم الهائل من الإخفاقات والأحلام الموءودة ، لماذا إذن كل هذا الخفقان والبكاء عندما تحلق الطائرة في رحلات العودة فوق سماء الإسكندرية ، لماذا أطالع فيلما عربيا قديما بكل هذه اللهفة لمجرد أنه سيحمل مشاهدا لكورنيش الإسكندرية أو حتى ميدان طلعت حرب ؟
لماذا أحفظ كل الأغاني الوطنية ظهرا عن قلب ، و أدندنها وقد أصبحت حتى "دوشة صوت جيراني والزحام وحشوني تاني ".
إذن صحيح
هي " الشحتفة" المتأصلة في الجينات المصرية ، والتي قد نخترع قريبا جهازا للكشف عنها داخل كل منا .


الأبلة جيهان
الكويت _ السالمية

الأربعاء، 11 يونيو 2008

بوصفي "مقيم"



وكأنها فزورة، لكني في الحقيقة، وبعد مشاورات مطولة مع نفسي، قررت أن أفعل مثلما هي عادتي دوما عندما تواجهني مشكلة معقدة، أتركها وأمضي. من هذا المنطلق ربما سأتغاضى عن الفزورة التي صنعها إبراهيم فرغلي وخالد جمال، أو على الأقل سأتظاهر بذلك، كنت متحمساً للكتابة ثم وعندما جلست أمام الكمبيوتر وجدت نفسي في حال لم أعهدها من قبل، فمن ناحية أنا أوافق تماما ً على ما قاله إبراهيم، لكني في الوقت نفسه لست إطلاقاً ضد ما كتبه خالد، ولكي يزداد الأمر تعقيداً فلست أوافق أبداً على ما كتبه الأثنان.
هي بالفعل فزورة، لكنها ليست صعبة، حلها يكمن في أن لها مئات بل آلاف وملايين الحلول، بل وأيضاً فإن لكل شخص حلولاً عدة تتبدل بحسب حالته النفسية عندما يخطر الوطن على باله، في هذه اللحظة بالذات فإنني لا أفكر فيه سوى على أنه "قاتل"، قاتل من نوع خاص جداً، هوايته في الفترة الأخيرة كانت اغتيال من كانت أعمارهم بين الثلاثين والأربعين، ربما مثلما فعل فرعون عندما انطلق في قتل الأطفال الذكور حتى لا يوجد موسى بعد ذلك، على المنوال نفسه ستجد قائمة عامة تضم على سبيل المثال وليس الحصر: مجدي الجابري، مجدي حسنين، محمد ربيع، أمل رمسيس، وائل رجب، أسامة الدناصوري وغيرهم كثيرون، وستجد لدى كل شخص قائمة خاصة من أصدقائه ومعارفه.
وطن يحب الديناصورات والتوابيت، والمتاحف، والمقابر، والمومياوات. ولا يطيق المفردات المناقضة لهذا...الشباب، الأحلام، الحب، الحماس، التنافس. بل إنه زرع فينا أنها مفردات رومانتيكية وساذجة تنتمي إلى عصور ومدارس قديمة.
لنكن واقعيين. هذه الأرض التي نسميها مجازا الوطن، لم تمنحنا شيئا، بل على العكس أخذت منا أحلى وأجمل أيامنا، قضيناها في خدمة أحلام جيل كان لا بد له أن يتنحى من أعوام، لكنه اعتبر أن الشعار الذي خرجت الجماهير تنادي به عبدالناصر أن يبقى، هو بالتبعية يسري عليها، لذلك هم لا يسمعون مهما قلت لهم سوى الجزء الثاني من الشعار، العبقرية المصرية مزجت ما لا يمكن مزجه...."أحه...أحه، لا تتنحى."، وأعطت ناصر ورفاقه مبرراً للبقاء والبكاء، بالطبع طعم البكاء وأنت في السلطة مختلف تماماً عنه عندما تكون خارجها. وعندما مات الرجل كان رفاقه قد امتهنوا لعبة "البقاء والبكاء" ولا يمكن أن يقصيهم سوى شعار آخر لا يقل قوة، ونحن بالطبع جيل ضد الشعارات والإيدلوجيا، لهذا آثرنا ألا نواجه، هل ستحارب أبوك، ورئيسك في العمل، وناظر المدرسة، ومدير الجمعية التعاونية، وخطيب المسجد؟ كان الأفضل أن نستمتع بالفرجة، غير أن الملل يقتل، والأحلام المكبوتة تقتل، فإما أن نموت أو نتحول إلى خصيان أو نغادر.
مثل الأفلام القديمة، عندما كانوا يسعون لإعادة ذاكرة البطل فإنهم يدبرون حادثاً مشابهاً لما مر به سابقاً، شيء مشابه حدث معي، نزلت مطار الكويت فبدأت ذاكرتي في استعادة مشاهد كانت قد فقدتها، الحادث الأول كان في السعودية وأنا في التاسعة من عمري تقريباً،ودام أربعة أعوام، ليقع الحادث الثاني بعدها بما يقرب من خمسة وعشرين عاماً، الجو الحار نفسه يضربك في وجهك، بالتأكيد مثلما فعل في المرة الأولى، لتنفتح الذاكرة على مشاهد وأحلام تتكرر بكل تفاصيلها: عربة مسرعة تخبط الدراجة التي يستمتع فتاها بالهواء يداعبه وينسى ما حوله، اسبوع في السويس هرباً من البيت بعد نتيجة الثانوية العامة المخزية، ونظرة أخيرة على القارب في الماء الذي كان يمكن أن يكون وسيلة الانتقال إلى اليونان حيث حياة بلا قيود، الجميلة المسيحية ابنة مدرسة الموسيقى الأكبر عمراً ودروس في فن القبلة على السلالم الفاصلة بين الشقتين.
عندما تتنازل عن لقب "مواطن"، الذي لم يمنحك شيئاً، تبدأ في استرداد بعض مما خسرته، في ظل اللقب الجديد الذي حصلت عليه، "مقيم"، ليس مطلوباً منك أي شيء، أصبحت خارج لعبة الأوطان، تنفصل عن قضايا الـ "هناك"، ولا يمكن أن تكون جزءاً من قضايا الـ "هنا"، واهتمامك بأي مما يجري لن يتعد اهتمامك بأي قضية أخرى، بل انك قد تتحمس لقضايا أخرى، اوباما والقصة الدرامتيكية... من سفينة العبيد إلى كرسي الرئاسة، الديموقراطية التي نرفضها على اعتبار أن: الديموقراطية لا يمكن فرضها على شعب. يا سيدي على الكرامة.
أكثر ما أخشاه أننا قد نقع في نوستالجيا قد تجرنا لفخ اسئلة الغربة السبعينية، والتي انتظرت حتى يبلورها محمد فؤاد بابتذال متسائلا: يعني إيه كلمة وطن؟ لكن إن كان في السؤال حكمة ما، حتى وإن كانت سوقية، إلا أن الإجابات لا تكن كذلك.
ومع هذا كله، أو بعضه، أكتب هذا وأنا أدندندن: يا عزيز عيني وأنا نفسي اروح بلدي. يا صباح التناقضات.


ياسر عبدالحافظ


10 يونيو 2008

الجمعة، 6 يونيو 2008

أظنه أرحب كثيراً


أظنه أرحب كثيراً


Your result is: Bliss
هل أنت بخير؟
هل تتجنب شيء ؟
إنك(ضمنيا) في وضع جيد...
و لكنه ..... خطر!!

هكذا جاءت نتيجة إجاباتي على أسئلة (فزورة) على الفيس بوك بعنوان
"هل أنت سعيد؟"

Bliss في المعجم: السعادة المفرطة… الغبطة…البهجة

كان هناك تناقض أدهشني بين النتيجة: (السعادة المفرطة) والتعليق: (وضع جيد ولكنه خطر)، وإن تبدد بالتدريج عندما رأيت صورة البهلوان المرفقة بالتعليق، الذي يلبس لباسا ويضع مكياجا يفترض أن يظهر بهما بمظهر المبتهج، بينما تعبر تقاسيم وجهه عن حزن داخلي. وبدلا من الدهشة حل تساؤل: أيمكن أن أكون مختفيا (دون وعي مني) وراء مظهر أو قناع ما يوحي بالسعادة أصدره لمن حولي، بينما أحمل بداخلي شخصا حزينا أو على الأقل مغايرا لما يظهر من الخارج!!
التساؤل نفسه دار بخاطري عندما قرأت مدونة إبراهيم فرغلي: "ضد الغربة"
هل الأمر يا صديقي بهذه البساطة؟ أن نعيش في المكان الذي نحب أو نحب المكان الذي نعيش فيه! أن نجد مقهى أثيرا نستطيع أن نقرأ و نكتب و ندخن فيه... وبهذا تتحقق شروط الوطن (العملية)، أم أن في الأمر قناع ما نرتديه دون وعي من أنفسنا دفعا للوقوع في براثن اكتئاب مواجهة الواقع!!
ليس في الأمر مزايدة على فكرة أو مفهوم الوطن والتعلق به... فأنا عشت مغتربا منذ أن كنت في السابعة من عمري حتى دخولي الجامعة في السابعة عشر، ثم مرة أخرى بعد الماجستير من 1996 إلى 2007، ثم الآن و إلى أجل غير مسمى.
بحساب السنين أكون قضيت أكثر من نصف عمري مغتربا.... ليس في هذا غضاضة بل على العكس... إذ لا يمكن إنكار الخبرات المكتسبة سواء على صعيد النشأة، مع كم غير محدود من تعدد الجنسيات، بكل ما تحمله من اختلاف و تنوع في اللغة والثقافة والمعتقدات، مما أظن أنه أكسبني ما يمكن وصفه بالهوية المرنة، أو على صعيد المهنة في نفس المناخ المتنوع كطبيب محترف في رحلة الغربة الثانية، ولكن في مقابل كل ما يمكن أن يعد من المكتسبات، أو الإضافات (سمها ما شئت)، إلا انه كان هناك إحساس ينمو بانتفاء فكرة أن أكون شخصا له جذور تربطه بكيان بعينه اسمه الوطن (مكانا و أفرادا).
ربما تكون طبيعة مكان الغربة في سنوات الطفولة ساهمت في خلق هذا الإحساس وتناميه ... فالكويت التي عرفتها صغيرا انمحت بالكامل، و لم يعد لبيتنا القديم وجود يسمح بالعودة له أو البحث عنه، مثلما فعل إبراهيم فرغلي في زيارته الأخيرة لعمان، ناهيك عن الطبيعة القاسية (والفقيرة نوعا) والتي لا تسمح لك بأن تزرع شجرة أو تتأمل الكون على الشاطئ بين الجبل والمحيط ، فتستطيع اجترار هذه المشاهد لاحقا كذكريات طفولة أو جذور لشيء أو مكان ما في حياتك.
ربما أصول عائلتنا غير المصرية، والتي ليس معروفا من أين أتت، ساهم أيضا في ترسيخ هذا الإحساس بشكل ما.
وربما ذلك كله جعلني احتمل وجع بعاد (عمر، ودنيا) في سبيل أن ينشئا في مكان تتراكم فيه ذكريات طفولة، وأصدقاء دراسة، وتجارب حب أولى في مكان، مهما بلغ ترديه الآن، يظل بحكم الجغرافيا والتاريخ اسمه الوطن.
نعم... يجب أن نخلق علاقة ما بيننا وبين المكان الذي نعيش فيه (سواء حبا أو على الأقل وئاما) بكل ما يحمل ذلك من تفاصيل مع الأصدقاء، والمقاهي، والشوارع، وكل مفردات الحياة، ولكنها في النهاية تبقى أشبه بذاكرة الكمبيوتر (الكاش ميموري) التي تساعد على إتمام ما تفعله (لحظيا) بكفاءة وسرعة وبدون( شحتفه)، دون أن يكون ذلك كله وطنا أو بديلا عنه.
أما الوطن فظني انه أرحب من ذلك بكثير.

خالد جمال
الكويت
يونيو 2008








السبت، 31 مايو 2008

وكأن

و كأن.......!!


!! Apollo : There will be no re-match
!!Rocky : There will be no re-match

تذكرت هذه اللقطة من فيلم (روكي) وأنا جالس في مطار القاهرة في انتظار النداء لركاب الطائرة المتجهة للكويت. كان قد مضى على وجودي في مصر قرابة العام بعد رحلة الغربة الثانية التي امتدت أحد عشر عاما أشبه ما تكون بجولات مباراة ملاكمة تخرج منها مملوءا بالكدمات والجروح حتى وإن خرجت منتصرا (أو صور لك). أعوام الغربة تلك كانت مليئة بأحداث غيرت كثيرا في رؤيتي لنفسي وما حولي متخطية ما هو خاص إلي العام حتى تماست مع رؤيتي للوجود كافة و في نهايتها استشعرت اكتمال التجربة ، وأن استمرارها لن يضيف الجديد في أي اتجاه.. ببساطة شعرت أنني ألعب جولتي الأخيرة التي لست بحاجة إلى خوض أخرى بعدها وأن الأوان قد آن للعودة.

فكرة العودة كانت مقترنة في جانب كبير منها بما تركته قبل رحيلي..... المنصورة بسحرها الخاص الذي لا يستشعره إلا من يعيش فيها ..... ذكريات كلية الطب... تجمع الأصدقاء عند مبنى المحافظة و سهرات فندق القاهرة و النادي اليوناني.....قصص الحب الغارقة في الرومانسية... البيت الكبير (بيت جدتي) حيث تجتمع العائلة كلها طوال شهور الصيف... مستشفى الجامعة بعد التخرج... خطوات (عمر) الأولى في حديقة جزيرة الورد.... السفر للقاهرة كل خميس للقاء أصدقاء "الجريون" أو الكاب دور اذا ما كنت مفلسا..... مهرجان المسرح التجريبي.... قائمة لا تنتهي!


!!
Home is no longer there

جملة قالها صديق لي (محذرا) عندما عاد زائرا بعد غياب عشرون عاما. جملة استشعرت هول حقيقتها عندما حاولت التجول في شوارع المنصورة.
"توريل" الجميلة؛ ببيوتها و ناسها، اختفت وحلت محلها تكوينات خرسانية شديدة القبح دون أي تناسق في الشكل أو الحجم مع الشوارع الضيقة التي كانت يوما وادعة و رحبة حتى انها تشعرك بالامتنان لانك تمشي عليها محفوفا بظل الاشجار على جانبي الطريق. فيلا حسن الإمام (المخرج) تحاول الصمود بطرازها القديم و اطلال حديقتها امام القبح المستشري حولها و الذي أحال سورها الخارجي لمقلب نفايات.

أهل توريل الذين كان تميزهم ورقيهم نابعا من مكانتهم الاجتماعية في مجالات شتى كالتعليم والقضاء والطب لم أجدهم !! مات من مات و رحل من رحل و قبع في بيته من ليس له خيار آخر في مواجهة واقع جديد تسيدت فيه طبقة طفيلية الحي بأكمله جالبة معها أخلاقيات و لغة وممارسات لم تكن يوما موجودة. ليس في الأمر طبقية كما قد يظن البعض. فالتغيير الذي حدث في (توريل) حدث في أحياء المنصورة كلها بدرجات متفاوتة. فقط التباين أوضح في توريل لتميز ما، كان موجودا.

إدراك تغير الواقع عن الصورة الذهنية التى عدت بها عن الوطن استتبع التمهل و إعطاء مزيد من الوقت لمشاهدة الواقع الجديد و محاولة فهم مفرداتة لعلي أستطيع التعامل معه. عام كامل و أنا أحاول فهم ما يجري حتى وصلت إلي ما سميته نظرية "و كأن"

المبنى من الخارج مكتوب عليه مستشفى جامعة المنصورة.... تدخل فتجد من يلبسون البالطو الأبيض ويضعون السماعات حول رقابهم، وآخرين ينامون على أسرّة يلتف حولها أقرباء لهم جاءوهم بالموز والبرتقال من بائع نصب نصبته على سور المستشفى الخارجي و لعلك تكون محظوظا فتجد سيدة تلبس بالطو استحال لونه من الأبيض إلي الرمادي لطول عهده دون غسيل !! في نهاية الأمر تظن أنك في مستشفى. فإذا راقبت ما يحدث لفترة طويلة نوعا، ستكتشف أنه لا الأطباء يمرون على المرضى ولا المرضى يتلقون علاجا ذا قيمة إلا إذا اشتروه على نفقتهم، ولا الممرضة مهتمة بأي مما يحدث لانشغالها بإرضاع طفلتها التي جاءت بها إلى العمل........ و كأنها مستشفى !!

من الخارج تقرأ كلمة مدرسة و احيانا (النموذجية).. تدخل من الباب فتجد ساحة مليئة بأكياس الشيبسي و علب العصير الفارغة يتوسطها صاري على نهايتة علم باهت ممزق الأطراف و تكتشف أن عدد من يفترض أنهم طلبة خارج المدرسة يتجاوز بكثير من هم بالداخل... لا تفارق السيجارة يد أحد منهم... الزي و الطابور و الشنطة من الماضي الذي لم يعد موجودا.... ينتهي اليوم الدراسي قبل ان يبدأ فلا الطلبه يتوجهون الي الفصول ولا المدرسون يبالون بما يحدث .... و كأنها مدرسة !!

هكذا تشكلت في ذهني نظرية "و كأن" و التي انسحبت على كل شيء حتى وصلت بتراكم (كأنها و كأنه) الي ...... و كأنه وطن !!

هنا أدركت (بمرارة) أن ما هو قائم كأنه وطن….. والحق أنه لم يعد موجودا بقدر ما أنا حبيسه كفكرة وزمن مر، لا أمل في عودته..... فعدت الى غربتي مسلما بأنه:

There will be a re-match again & again

خالد جمال
الكويت
يونيو 2008

الثلاثاء، 27 مايو 2008

ضد الغربة

أكتب لأنتقم! أم ضد "الغربة"!

كان من المفترض أن تكون تدوينتي الأولى عن فكرة "الغربة"، التي اقف منها موقف ضد. لكني فكرت أن ابدأ بالتعليق على تدوينة ياسر عن نجيب محفوظ.
لكني أحب بداية ان أوضح انني لا أفهم "الغربة"، ولا شحتفة المغتربين.
أفهم أن يعيش الإنسان في مكان يحبه. أو أن يحب المكان الذي يعيش فيه، وإلا فليصمت أو يرحل. قضيت طفولتي "مغتربا" إذا شئتم. في عمان والإمارات. وعدت إلى مصر في الثانية عشر من عمري. عدت مرة أخرى إلى مسقط في السادسة عشرة، ثم عدت للقاهرة وهكذا.ما بين المكانين. لسنوات.
أحن إلى بيتنا الأول في مسقط الذي أعود لأتأمله كلما زرت مسقط. ما زال هو كما هو. بيت صغير من طابق واحد محاط بحديقة مسورة. لكن شجرة النبق التي زرعتها في عام رحيلي من مسقط، تضخمت ، وأصبحت شجرة عملاقة، كسرت في نشأتها جزءا من سور البيت. كما ان البيت الذي كان ثالث ثلاثة بيوت في ذلك المكان، اصبح نقطة في محيط ، بيت بين بيوت عديدة ، لم أستطع الوصول إليه بسهولة من فرط ازدحام المنطقة بالبيوت والمحال.
ردني إلى بلادي كما تقول الأغنية الوطنية على لسان فيروز. يمكن أن أقول ذلك وفي بطني معنيين: الأول هو بيت المنصورة الذي ولدت فيه والذي هدم مؤخرا وتحول لبناية عملاقة في شارع طلعت حرب بتوريل، أو أن أعود إلى بيت مسقط الذي نشأت فيه واكتسبت الوعي وأنا ادورفيه، واذرع المساحة بين غرفتي والحديقة، اقرأ وأحلم، وافكر في الكون الواسع من حولي الذي يفيض بالجبال، وبالوديان. وأناقش فكرة خلق العالم في ذهني، بعد دروس الدين الأولى، مندهشا من هذه الفكرة العملاقة.
وأنتظر عطلة نهاية الأسبوع حيث تذهب عوائلنا للشاطيء، فأعتزل الجميع واسير لوحدي على امتداد الشاطيء، بلا نهاية، إلى يميني البحر (مياه المحيط)، وإلى يساري الجبل، وعلى الرمال اقتفي آثار الزواحف والثعالب، وأمامي افق لا أعرف كيف ابلغه. ضاربا عرض الحائط بكل شيء، بالأصدقاء وباستنكار أبي الذي سيظل يعنف أمي على "ابنها المنعزل" الذي لا يحب الانخراط اجتماعيا مع الجموع.
في كل مدينة زرتها أسرعت بعمل مجتمع صغير من العلاقات والأماكن التي اتردد عليها بانتظام: مقهى أثير، مكتبة، مول، وفي كل مكان يقترن اسمي بمقهاي الأثير ذاك.. حتى في الزيارات التي لم تتعد شهرا مثل سراييفو او ألمانيا كنت أجلس يوميا على مقهى أثير ولا اغيره، طبعا بعد جولة واسعة على عشرات المقاهي إلى أن أستريح إلى واحد منها. باريس هي المدينة التي لم استطع أن أستقر فيها على مقهى بعينه، لأنني كلما زرت مقهى أعجبني، كما أن مقاهي باريس أكثر من أن تكفيها الأسابيع الثلاثة التي قضيتها فيها.
ربما أن نشاتي بعيدا عن مصر جعلتني دائما أشعر انني بلا مكان. ولعل هذا ما جعلني ايضا أبدو قصيا، نافرا، أنتمي لعزلتي اكثر من انتمائي لمجموعة، مهما بدوت منخرطا واجتماعيا.
وحتى هذه اللحظة لا أملك بيتا. في القاهرة أعيش في بيت مستأجر، وهنا أيضا. والبيت الوحيد الذي كنت أتصوره الملاذ الأخير، وهو بيت المنصورة قد اصبح أثرا لا وجود له سوى في الذاكرة.
لكن هذه الأمور ليست مريرة كما يحب البعض أن يتصوروا، ولا تجعلني أشعر بأنني مقطوع من شجرة أو بلا وطن. بالعكس. مثلي مثل غيري أحب ما يحبه الجميع من ذلك الوطن، وانتمي إلى ما ينتمون.
لكنني ايضا أؤمن أن الوطن كما أتخيل ما يجب أن يكون عليه، بعيد تماما عن صورته الراهنة التي تشوهت إلى ابعد مدى.
لكل هذا وغيره، لا أفهم فكرة "الغربة"، ولا منطقها المرير. لا أستطيع أن أكره الأماكن التي أعيش فيها لأنني أعرف أن مقابل الكثير مما قد ينفرني فيها هناك أماكن يمكنني أن أتآلف معها، ينطبق هذا على المكان الذي اعيش فيه الآن وهنا، كما ينطبق حتى على أكثر الأماكن التي عشت فيها حميمية مثل القاهرة، والمنصورة من قبلها.
وهكذا كان وطني هو تلك الأماكن القليلة الصغيرة التي تتيح لي حيزا يسمح لي أن أقرأ وأتامل وأحلم، وأكتب، واتناول القهوة. أينما وجدت هذه المساحات الصغيرة فأنا في وطني. وأينما ضن عليَّ مكان بمثل هذا الحيز فأنا غريب.
أما عنوان التدوينة فهو يخص فكرة أخرى تعليقا على تدوينة ياسر عن نجيب محفوظ لعلني سأعود إليها في اقرب فرصة.
إبراهيم فرغلي

الأربعاء، 21 مايو 2008

Born to write


واحدة من مزايا"الغربة"، أنك تستطيع متابعة "الوطن" من دون تورط، لا تعود مضطرا للانفعال والمعاناة من حرقة الدم وجمال مبارك مثلا على التليفزيون يشرح سياسات الحزب الاقتصادية وكيف أنها في صالح الفقراء تماما. لست مضطرا للصراخ وأنت تراهم يزورون الانتخابات علانية، وبشكل فاضح، ثم يلومون بقية الأحزاب على أنها لم تشارك في إثراء العملية الديموقراطية، وعلى أنه ليس لها قاعدة شعبية في الشارع. والمؤكد أنك ستستقبل بمنتهى البرود تصريح فاروق حسني، ردا على اتهام واحد من الإخوان وزارة الثقافة أنها تسمح بتوزيع كتب وروايات إسرائيلية في المكتبات، بأن هذا كذب وأنه على استعداد لأن يحرق هذا الكتاب بنفسه لو كان موجودا. ستستقبل هذا التصريح برحابة إنسانية، لن تقول مثل ما قلت في الماضي، لن تهمس بينك وبين نفسك: "حرام والله"، بل وربما ستجد لسيادة الوزير مبررا ما، مبررا فنيا على الأقل، فالميزة الأخرى للابتعاد، ومن ثم الخروج من دائرة التورط، اكتشافك أن كل الشخصيات، التي كنت تتعامل معها على أنها من لحم ودم، ليست كذلك، بل تحولت إلى كائنات روائية تلاعبك طوال الوقت، تطلب منك أن تبحث لها عن المبررات والمواقف والنهايات.
وما الدنيا إلا مسرح كبير. بالطبع، هذه حقيقة بدائية جدا ولا يمكن أن ننسبها إلى يوسف وهبي كاختراع، هو كمن كشف الغطاء عن امرأة عارية، لا يعود إليه الفضل لا في جمالها ولا في الرغبة التي راودتنا لرؤيتها عارية، وليس المقصود هنا التقليل من شأن يوسف وهبي، وإنما فقط أن هذه الجملة حالة واقعية وليست اكتشاف أدبي أو جمالي، جزء من قانون الحياة نفسه، وما أن تشعر بذلك حتى تنطق الجملة وتعرف يقينا أنه لا يمكن لشخص واحد امتلاك حقوقها، وهناك مرحلة لكل واحد فينا يشعر تماما ليس فقط بخشبة المسرح وإنما كذلك بموقعه منها، وهذا التحديد يمنح الشخص راحة وهدوءا لا حد له، لأنه في الحقيقة ليس مطلوبا منك أن تتقن دورك أو تجيد في أداءه، لا توجد درجات على الأداء الجيد، مارسه بالطريقة التي تأتي على هواك، المهم فقط أن تعرف ما هو هذا الدور.
هذه مقدمة طويلة بعض الشيء، وربما لا ترتبط بالموضوع. خاصة وأن الموضوع ، في الأساس، بسيط جدا ولا يحتاج لكل هذا، فعلى الرغم من موضوع عدم التورط هذا، إلا انه في النهاية كلام لا يمكن أن يتحقق مئة في المئة.
على سبيل المثال، وبينما كنت أقلب قنوات التليفزيون وجدت أمامي فجأة مجموعة من الأشباح: طه حسين، أنيس منصور، محمود أمين العالم، يوسف السباعي، نجيب محفوظ، ومجموعة أخرى لم أتمكن من تركيب ملامحها الشبابية تلك على الصور المختزنة لهم في عقلي، منظر في الحقيقة كان في حاجة لاستدعاء فريق Ghost Busters، مشهد شبحي فعلا لم تخفف من حدته تلك المذيعة الكتكوتة الجالسة وسط هؤلاء الوحوش، وحتى عندما تندمج قليلا مع الحديث متناسيا لون الخير والشر الذي يطبع الشاشة أمامك، وملابسهم الستينية المتشابهة وكأن "الحزب الاشتراكي" صرفها لهم قبل التسجيل مباشرة، عندما تنسى كل هذا يأتيك فجأة نباح حاد لكلب، حاد لدرجة أنك تكاد تتخيل أنيابه، وبعد قليل من المتابعة ستتخيل مثلي أن الفظيع طه حسين قد أطلقه على أحد ضحاياه.
لأنه طه حسين، الأسطورة التي يفتخر بها العالم العربي الحديث، التعريف المحلي لقوة الإرادة، بغض النظر عما كتبه، لهذا كان يجلس على كرسي خاص، هي غالبا كانت "الفيللا" الخاصة به، وهذا كرسي العرش، بينما يجلس "الغلابة" الآخرون كيفما اتفق، والمذيعة الكتكوتة تجلس بجواره، بما يردك فورا إلى الجميلة والوحش، خاصة أن المسكينة كانت متصاغرة جدا أمامه، مثل البقية، غير أن أنوثتها كانت تزيد موقفها حرجا، بالنسبة لي على الأقل، ففي ذلك الوقت كانت مسألة: "قم للمعلم وفه التبجيلا"، سائدة جدا وتكاد تكون معتقدا شعبيا، وهذا الرجل ليس مجرد معلم، إنما هو "قاهر الظلام" العظيم.
ربما كان المقصود من بث هذه الحلقة وغيرها، تذاع تلك الحلقات ضمن برنامج عنوانه "من التراث"، تعليم الجمهور من خلال الحوار بين الحاضرين و"العظيم"، وغالبا سيرى الجمهور هذا الحوارجميلا، وفي مقاطع منه يدعو للتأمل، بل وإن الحوار يثير في مجمله الحسرة على ثقافة الزمن الجميل، لكن ومع الاحترام لهذا إلا أنك وأنت تشاهد الحلقة وتتابع ما يحدث لا تملك إلا أن تصرخ "ياخي أحة"، وعذرا لكن فعلا لا توجد جملة مهذبة معبرة.
طه حسين في جالس في مقام الأستاذ، ربما يكون هذا نظريا مفهوم، لكنه على مستوى التطبيق يصبح شيئا منفرا جدا، يوجهون الأسئلة إليه بهذا المنطق، والمذيعة تدير دفة الحوار على أنها التلميذ الذي وكله الأستاذ مهمة مراقبة زملائها حتى لا يستغل أحد منهم عماه.
نهاية الحلقة جاءت خير معبر عن تفاصيلها، وهي تكفي لأوضح ما أقصده، المذيعة طلبت من نجيب محفوظ أن يوجه سؤالا، فهمهم المسكين بما لم نفهم، وأظن أنه كان يقول أنه ليس لديه أسئلة، ويبدو أن هذا لم يعجب طه حسين فقال ساخرا محفوظ الملتزم! وضحك ضحكة ساخرة مبتسرة وهو يضيف ملتزم بالواقعية، ملتزم ببيئته، نظرت المذيعة إلى محفوظ الذي كان ارتباكه واضحا جدان ولم تفلح شامته ونظارته السوداء في إخفاء هذا، وسألته إن كان سيعقب فعادت الهمهمة لتراودنا الشكوك: هل كان محفوظ يعاني مشكل نفسية لتلك الدرجة! تولى الكلام عنه محمود أمين العالم والذي قرر أن يكون التلميذ المنافق فقال وابتسامته لا تترك وجهه أن ما قاله طه حسين يعبر عن اهتمامه بالجيل الجديد وأدبه، ثم قرر العالم أن يأخذ دورا آخر بخلاف النفاق فكان الشرير من نصيبه، قال لطه حسين "نحب أن نسمع رأيك في الإنتاج الأدبي للجيل الجديد". طبعا كان واضحا جدا أن المقصود هو محفوظ بالأساس، وبعد تمنع من طه ومحايلة من العالم انهال الدكتور تقريعا على الجيل الجديد، أنه لا يقرأ بقدر ما يكتب، ولا يعرف لغات أجنبية، ولا يعرف التراث، وغير ذلك من اتهامات تضع الجيل وإنتاجه في خانة المبتدأ الذي لم يرق إنتاجه للحكم عليه بعد، أما محمود العالم فقد أخذ مكافأته على نفاقه فقد استثناه طه حسين من هذا الجيل ومدح كتابا له كان يقرأه.
طه حسين انطلق من مشاكل الجيل الجديد إلى الجمهور بشكل عام قائلا أن التلفزيون والراديو والمسرح يمنعوا الناس من القراءة والتثقف، ويبدو أن الكلام عن الجيل بتلك الطريقة قد استفز البعض، كان أشجعهم يوسف السباعي الذي نزل الساحة متحديا، تحدث عن أن تلك الوسائل يمكن اعتبارها وسائل نشر، أي أنها يمكن أن تكون أدوات تثقيف، ورد طه حسين بأنهم طلبوا منه في الراديو إحدى قصصه لقراءتها، ولم نفهم هل تلك موافقة على ما قاله السباعي أم أنها الرغبة في الهرب من المناقشة كلها، وربما التعب لأنه قال للمذيعة قبل ذلك بدقائق بأن هذا القدر يكفي.
عموما.. انتهت الحلقة بشكل مفاجئ، لا أعلم إن كانت قد انتهت بالفعل أم أنهم رأوا في القناة الثقافية أن ذلك القدر مناسب كما رأى طه حسين. ولم يعد أمام من شاهدها سوى التفكير في مصائر ضيوفها بعد ذلك، على رأسهم الصامت نجيب محفوظ الذي كان يتصرف بمنطق: أكتب لأنتقم.
إذن صحيح..
يبدو أنه حل مثالي فعلا.

ياسر عبد الحافظ

الأربعاء، 14 مايو 2008

لولا الأحلام


لولا الأحلام

نصحني صديقي اللدود بأن أرى الناس و الأشياء (من بره ) حتى أنفلت من نطاق التورط ، لم أقتنع بوجاهة فكرته في البداية حتى قمت بتنفيذها بالفعل ، كدت أنجح في ذلك تماما لولا (الأحلام ) المزمنة التي تطاردني فتعيدني لنفس الأماكن والأحداث .

شيء آخر كان يعكر صفو الانطلاق والرؤية البرانية ، وهو أوقات العودة الفعلية والالتقاء بنفس الأشخاص .

لكنني وجدت طريقة أخرى لعدم التورط من جديد في حياة لم أرغبها منذ البدء ، التعاطف الخارجي ، والفرار السريع .

علي أن أعترف أن محاولات خروجي المستمرة ، البعد والكلام من بره الحدث كانت قديمة ومتكررة ، أفضلها على الإطلاق هو السفر والإقامة الدائمة بعيدا جدا ، بعيدا بُعد مسافة الطائرة والأمكنة والأحداث والأشخاص الجدد ، وحتى اللهجة المختلفة ، ونمط الحياة المغاير تماما .

سأركب الطائرة للمرة الأولى ، وأتعرف على عشرات الأشخاص الجدد .
ستفاجئني وتسعدني "الكوفي شوب " كانت من أوائل الأشياء التي كتبت لك عنها ، أخبرتك عن العمالة الآسيوية فيها "هنود وفلبين " وقليل من الجنسيات العربية .

منذ الولوج الأول تفاجئني التحية وكأنني أدخل بيت صديق حميم ، يلاقيني بالشوق والترحاب ، ابتسامة تملأ الوجه ، ونبرات صافية مرحبة " hi mam" " good evening mam" الجميع يقومون بالتحية وكأنني ضيف شرف ، أنت أيضا سعدت بذلك حين حضرت إلى هنا للمرة الأولى _ في الإسكندرية . كنت ومازلت تصاب بالضيق الشديد من مطاردة الندل لنا حين نتمشى على الشاطئ كل يحاول إجبارنا على الجلوس في مقهاه .

" مقهى كولومبوس " كان مكاني المفضل في البداية ، بموقعه المرتفع بعدة سلالم رخامية ، وإطلالته الخارجية في الهواء ، على الشارع الرئيسي ، أحب متابعة السائرين في الشارع ، أشعر بالونس من رؤية الناس ، تمنيت كثيرا أن تكون معي لتشاركني تلك الجلسات ، خاصة في فبراير حيث الجو الربيعي والنسمات الجميلة ، الأضواء والألوان ، المحال والسائرين ، معظمهم يحمل الأكياس البلاستيكية الملونة تعبيرا عن ثقافة الـ" shopping " طابع المكان المميز .

هنا لن تكون للعباءات والأشمغة السيطرة على المشهد ، بل الوافدين " لبنانيون وسورييون ومصريون ، أمريكان وأجانب آخرون ، آسيويون " الملابس مودرن ، الوجوه باسمة ، والأحاديث ودية ، بعض الأيادي المتاشبكة ، والمساحات المكشوفة من الجسد كثيرة ومتنوعة .

" فرابتشينو " " كابتشينو " " موكا " " كافيه لاتيه " قائمة من أسماء المشروبات الغريبة ، تعرفت فيها على " الكابتشينو " فاخترته مباشرة ، الحديث طوال الوقت باللغة الإنجليزية ، أو " العربية الكويتية الآسيوية " التي لم أكن أفقه فيها شيئا فكنت أختار الإنجليزية ، أحمل طلبي وأعود لطاولتي في الخارج " thank you mam " ، أسعدني اللقب كثيرا ، ربما كان بشرة خير لاقتراب زواجي وحصولي على لقب " مدام " ، هذا اللقب الذي كان يمنحه لي البائعون في الأسواق الشعبية .

أصبحت أحمله رسميا الآن ، لقبا آخر لم أحبه أبدا ، يناديني به السائق الصعيدي " محمد " وحارس السكن " عادل " ، " الأبلة جيهان " ، لكنني أجد أهمية الحفاظ عليه ، للإبقاء على بعض الحدود الهامة في التعامل .

إذن صحيح

" للغربة منطقها الخاص ، وقوانينها أيضا "

الأبلة جيهان
السالمية / الكويت