الجمعة، 13 يونيو 2008

لماذا كل هذا الحنين؟؟







ومن مزايا الغربة أنها منحتنا تلك الفرص للقاء ، والعمل على مشروع جماعي ، ولو كان هو فكرة تلك المدونة الجماعية " إبراهيم ، جيهان ، خالد ، مهاب ، ياسر " _ تبعا للترتيب الأبجدي _ فرصة لم تكن لتتاح بيسر في مصر ، حيث الغوص في المقلاة خمسون ساعة في الأربعة وعشرين ساعة اليومية .
أو التآكل بفعل التفاصيل الصغيرة اليومية المتكررة التي تقرض فينا طوال الساعات والدقائق .
سأعود لتجربتي الشخصية، السفر بالنسبة لي كان حلما منذ الصغر، كنت دائما أتخيل نفسي في أماكن أخرى ومع أشخاص آخرين أتحدث بلغات مختلفة ، تمنيت أن تكون دراستي الجامعية بمحافظة أخرى كي أسكن ببيت الطالبات، كان البيت/الوطن ، مرادفا بالنسبة لي للكبت وعدم التقدير، وأحيانا للامتهان ، كانت كل فرصة للمبيت خارجه فرصة للحرية، لأخذ نفس عميق بلا شروط ولا مراقبة ، ما المعضلة الكبرى "عقدة أوديب "، أم كوني الثانية بعد أخ أكبر كان هو العالم كله بالنسبة لوالدة تمتلك زمام الأمور، ووالد غائب حتى في الحضور . أخ هو الفلك الذي تدور حوله الحياة ، أما كل الآخرين فمجرد ظلال باهتة ، أحيانا لا ترى أو تسمع بالمرة . لذا كان كل تحين لأي فرصة للانفلات، بيت جدتي ، خالتي ، حتى جارتي "رانيا " أقضي معها كل وقتي في المنزل أسهر معها حتى تبدأ والدتي في إرسال المراسيل لي ( خلي عندك دم بقى واطلعي ) .
فأطلع لأقضي أوقاتا كثيرة بلا تبادل أي حوار مع أي منهم ، مكونة عالما خاصا بديلا يمنحني هروبا جزئيا فلا أعود معهم ، عالم القصص والروايات ، أمكنة وأزمنة سفري وانفلاتي الأول ، بمجرد دخولي عالم القصة كانت الجدران الأربع تختفي ، أصوات نقاشاتهم حولي تخفت تدريجيا ، أجد نفسي مرة في غابة إيطالية مع أبطال " حلم ليلة صيف " ، أو " أجدني ضاحكة متهكمة من أحد أفراد الموساد وأنا أراقب " أدهم صبري " يشبعه ضربا ، أو ربما أحاول اكتشاف حل أحد ألغاز " المغامرين الخمسة " أو الثلاثة أو غيرهم ، في الواقع ، أتذكر رحلتي إلى "بلطيم " و " عزبة البرج " مع "عامر وعارف وعالية " الكارتة التي يجرها الحصان ، والأكواخ الخوص في عزبة البرج ، الأضواء والمياه ، صوت خرير الماء والهواء البارد في الليل على الشاطئ .
أدعي أنني رأيت وأحسست بكل ذلك ، فجأة ينتهي كل شيء ، تذوب الصورة وتعود الأركان الأربع ، وأصوات المشاجرات والصياح ، أنتبه على يد تلكزني ، تناوب الجميع مناداتي ، دون أن انتبه ، كيف لا يدركن أنني كنت فعلا في مكان آخر ، في المساء حين تطفأ كل الأنوار ، وينتهي إرسال التلفاز ، أعاني من أرق مزمن ربما لأن كل أحداث اليوم غير العادلة تمر كشريط سينمائي يحمل مشهدا واحدا يتكرر بلا نهاية ، أتقلب يمنة ويسرة في يأس ، - ممنوع إشعال الضوء- لأتمكن من القراءة حتى أنام ، كيف يأتيني النوم ولم أكمل أحدث القصة بعد ، لم أعرف مصير " منى توفيق " في أسر الجستابو ، أغمض عيني ، أكمل أحداث القصة بنفسي ..... أنام .
في أوقات أخرى لم أكن أستطيع النوم حتى أتخيل نفسي وقد سافرت لمكان آخر ، مبتكرة مشاهدا سينمائية مبتكرة ، كانت أمريكا هي الحلم قديما ، فجأة كنت هناك، فقط هناك كيف وصلت؟! لم يكن مهما لم يكن هناك أي تخيل لرحلة الطائرة أو غيرها ، فقط أنا في أحد الشوارع الأمريكية ، أتحدث بالإنجليزية مع إحدى الأسر ، يعرضون علي العيش معهم إلى الأبد ، أبتسم وأنام .
في الصف الرابع الابتدائي ، اضطرت أمي لتركي وحدي في المستشفى ، لتعود إلى البيت تحضر بعض أغراض ليلتنا التي سنبيتها لأجري عملية "اللوز " ، كانت تخشى أن تعود فتجدني باكية ،خائفة من المكان المليء بالأغراب ، عادت أمي فوجدت كل من بالعنبر الكبير ملتفا حول فراشي ، الذي اعتليته كخشبة مسرح ، مقلدة " عم أيوب " .
هذه هي أنا منطلقة تماما خارج أسوار المنزل ، شخصية أخرى تماما ،
ويتكرر نفس المشهد حين يلتوى كاحلي في الجامعة ، فأطرب حين يمنحني الطبيب ليلة للمبيت في المشفى ، وحدي هذه المرة ، آلامي الجسدية كانت تتضاءل أمام فرص الانفلات والمغامرة مهما كانت صغيرة
لهذا كان السؤال الذي يحاصرني دائما ، أيهما أهون وأقل وطأة على النفس ؟؟ ، الاغتراب المفروض قسرا بين من كانوا من المفترض أن يكونوا هم أقرب الناس ، أم الاغتراب الاختياري ؟!.
كان علي دائما البحث عن وطن بديل ، كما أشار "ياسر" إلى السؤال ، يعني إيه كلمة وطن ؟؟
هل هو الجيران المزعجون ، أم زملاء العمل الذين يترصدون كل الفرص للإطاحة بي ، بمعارك شريفة وغير شريفة .
في المناقشة أشار" إبراهيم" إلى أن السبب المادي ليس دافعا كبيرا للارتحال، وأننا ببعض الكفاح في الوطن نستطيع تأمين حياة مادية معقولة .
أي كفاح يقصد ؟ هل هو كفاح سنين الانكباب على مذاكرة مناهج عقيمة للحصول على مجموع يدخل الجامعة ، ثم التخرج والعمل من السادسة صباحا للعاشرة مساء لمدة خمس سنوات كانت حصيلتها ألفي جنيه لم يكفيا حتى مصاريف السفر ؟
لماذا ذكرت كل ذلك ؟
ربما لأشارك "ياسر " التأكيد على تلك المعضلة
أو الإجابة عن سؤال يحيرني ؟
إذا كانت مصر بالنسبة لي تحمل كل هذا الكم الهائل من الإخفاقات والأحلام الموءودة ، لماذا إذن كل هذا الخفقان والبكاء عندما تحلق الطائرة في رحلات العودة فوق سماء الإسكندرية ، لماذا أطالع فيلما عربيا قديما بكل هذه اللهفة لمجرد أنه سيحمل مشاهدا لكورنيش الإسكندرية أو حتى ميدان طلعت حرب ؟
لماذا أحفظ كل الأغاني الوطنية ظهرا عن قلب ، و أدندنها وقد أصبحت حتى "دوشة صوت جيراني والزحام وحشوني تاني ".
إذن صحيح
هي " الشحتفة" المتأصلة في الجينات المصرية ، والتي قد نخترع قريبا جهازا للكشف عنها داخل كل منا .


الأبلة جيهان
الكويت _ السالمية

ليست هناك تعليقات: