الأربعاء، 11 يونيو 2008

بوصفي "مقيم"



وكأنها فزورة، لكني في الحقيقة، وبعد مشاورات مطولة مع نفسي، قررت أن أفعل مثلما هي عادتي دوما عندما تواجهني مشكلة معقدة، أتركها وأمضي. من هذا المنطلق ربما سأتغاضى عن الفزورة التي صنعها إبراهيم فرغلي وخالد جمال، أو على الأقل سأتظاهر بذلك، كنت متحمساً للكتابة ثم وعندما جلست أمام الكمبيوتر وجدت نفسي في حال لم أعهدها من قبل، فمن ناحية أنا أوافق تماما ً على ما قاله إبراهيم، لكني في الوقت نفسه لست إطلاقاً ضد ما كتبه خالد، ولكي يزداد الأمر تعقيداً فلست أوافق أبداً على ما كتبه الأثنان.
هي بالفعل فزورة، لكنها ليست صعبة، حلها يكمن في أن لها مئات بل آلاف وملايين الحلول، بل وأيضاً فإن لكل شخص حلولاً عدة تتبدل بحسب حالته النفسية عندما يخطر الوطن على باله، في هذه اللحظة بالذات فإنني لا أفكر فيه سوى على أنه "قاتل"، قاتل من نوع خاص جداً، هوايته في الفترة الأخيرة كانت اغتيال من كانت أعمارهم بين الثلاثين والأربعين، ربما مثلما فعل فرعون عندما انطلق في قتل الأطفال الذكور حتى لا يوجد موسى بعد ذلك، على المنوال نفسه ستجد قائمة عامة تضم على سبيل المثال وليس الحصر: مجدي الجابري، مجدي حسنين، محمد ربيع، أمل رمسيس، وائل رجب، أسامة الدناصوري وغيرهم كثيرون، وستجد لدى كل شخص قائمة خاصة من أصدقائه ومعارفه.
وطن يحب الديناصورات والتوابيت، والمتاحف، والمقابر، والمومياوات. ولا يطيق المفردات المناقضة لهذا...الشباب، الأحلام، الحب، الحماس، التنافس. بل إنه زرع فينا أنها مفردات رومانتيكية وساذجة تنتمي إلى عصور ومدارس قديمة.
لنكن واقعيين. هذه الأرض التي نسميها مجازا الوطن، لم تمنحنا شيئا، بل على العكس أخذت منا أحلى وأجمل أيامنا، قضيناها في خدمة أحلام جيل كان لا بد له أن يتنحى من أعوام، لكنه اعتبر أن الشعار الذي خرجت الجماهير تنادي به عبدالناصر أن يبقى، هو بالتبعية يسري عليها، لذلك هم لا يسمعون مهما قلت لهم سوى الجزء الثاني من الشعار، العبقرية المصرية مزجت ما لا يمكن مزجه...."أحه...أحه، لا تتنحى."، وأعطت ناصر ورفاقه مبرراً للبقاء والبكاء، بالطبع طعم البكاء وأنت في السلطة مختلف تماماً عنه عندما تكون خارجها. وعندما مات الرجل كان رفاقه قد امتهنوا لعبة "البقاء والبكاء" ولا يمكن أن يقصيهم سوى شعار آخر لا يقل قوة، ونحن بالطبع جيل ضد الشعارات والإيدلوجيا، لهذا آثرنا ألا نواجه، هل ستحارب أبوك، ورئيسك في العمل، وناظر المدرسة، ومدير الجمعية التعاونية، وخطيب المسجد؟ كان الأفضل أن نستمتع بالفرجة، غير أن الملل يقتل، والأحلام المكبوتة تقتل، فإما أن نموت أو نتحول إلى خصيان أو نغادر.
مثل الأفلام القديمة، عندما كانوا يسعون لإعادة ذاكرة البطل فإنهم يدبرون حادثاً مشابهاً لما مر به سابقاً، شيء مشابه حدث معي، نزلت مطار الكويت فبدأت ذاكرتي في استعادة مشاهد كانت قد فقدتها، الحادث الأول كان في السعودية وأنا في التاسعة من عمري تقريباً،ودام أربعة أعوام، ليقع الحادث الثاني بعدها بما يقرب من خمسة وعشرين عاماً، الجو الحار نفسه يضربك في وجهك، بالتأكيد مثلما فعل في المرة الأولى، لتنفتح الذاكرة على مشاهد وأحلام تتكرر بكل تفاصيلها: عربة مسرعة تخبط الدراجة التي يستمتع فتاها بالهواء يداعبه وينسى ما حوله، اسبوع في السويس هرباً من البيت بعد نتيجة الثانوية العامة المخزية، ونظرة أخيرة على القارب في الماء الذي كان يمكن أن يكون وسيلة الانتقال إلى اليونان حيث حياة بلا قيود، الجميلة المسيحية ابنة مدرسة الموسيقى الأكبر عمراً ودروس في فن القبلة على السلالم الفاصلة بين الشقتين.
عندما تتنازل عن لقب "مواطن"، الذي لم يمنحك شيئاً، تبدأ في استرداد بعض مما خسرته، في ظل اللقب الجديد الذي حصلت عليه، "مقيم"، ليس مطلوباً منك أي شيء، أصبحت خارج لعبة الأوطان، تنفصل عن قضايا الـ "هناك"، ولا يمكن أن تكون جزءاً من قضايا الـ "هنا"، واهتمامك بأي مما يجري لن يتعد اهتمامك بأي قضية أخرى، بل انك قد تتحمس لقضايا أخرى، اوباما والقصة الدرامتيكية... من سفينة العبيد إلى كرسي الرئاسة، الديموقراطية التي نرفضها على اعتبار أن: الديموقراطية لا يمكن فرضها على شعب. يا سيدي على الكرامة.
أكثر ما أخشاه أننا قد نقع في نوستالجيا قد تجرنا لفخ اسئلة الغربة السبعينية، والتي انتظرت حتى يبلورها محمد فؤاد بابتذال متسائلا: يعني إيه كلمة وطن؟ لكن إن كان في السؤال حكمة ما، حتى وإن كانت سوقية، إلا أن الإجابات لا تكن كذلك.
ومع هذا كله، أو بعضه، أكتب هذا وأنا أدندندن: يا عزيز عيني وأنا نفسي اروح بلدي. يا صباح التناقضات.


ياسر عبدالحافظ


10 يونيو 2008

ليست هناك تعليقات: