السبت، 31 مايو 2008

وكأن

و كأن.......!!


!! Apollo : There will be no re-match
!!Rocky : There will be no re-match

تذكرت هذه اللقطة من فيلم (روكي) وأنا جالس في مطار القاهرة في انتظار النداء لركاب الطائرة المتجهة للكويت. كان قد مضى على وجودي في مصر قرابة العام بعد رحلة الغربة الثانية التي امتدت أحد عشر عاما أشبه ما تكون بجولات مباراة ملاكمة تخرج منها مملوءا بالكدمات والجروح حتى وإن خرجت منتصرا (أو صور لك). أعوام الغربة تلك كانت مليئة بأحداث غيرت كثيرا في رؤيتي لنفسي وما حولي متخطية ما هو خاص إلي العام حتى تماست مع رؤيتي للوجود كافة و في نهايتها استشعرت اكتمال التجربة ، وأن استمرارها لن يضيف الجديد في أي اتجاه.. ببساطة شعرت أنني ألعب جولتي الأخيرة التي لست بحاجة إلى خوض أخرى بعدها وأن الأوان قد آن للعودة.

فكرة العودة كانت مقترنة في جانب كبير منها بما تركته قبل رحيلي..... المنصورة بسحرها الخاص الذي لا يستشعره إلا من يعيش فيها ..... ذكريات كلية الطب... تجمع الأصدقاء عند مبنى المحافظة و سهرات فندق القاهرة و النادي اليوناني.....قصص الحب الغارقة في الرومانسية... البيت الكبير (بيت جدتي) حيث تجتمع العائلة كلها طوال شهور الصيف... مستشفى الجامعة بعد التخرج... خطوات (عمر) الأولى في حديقة جزيرة الورد.... السفر للقاهرة كل خميس للقاء أصدقاء "الجريون" أو الكاب دور اذا ما كنت مفلسا..... مهرجان المسرح التجريبي.... قائمة لا تنتهي!


!!
Home is no longer there

جملة قالها صديق لي (محذرا) عندما عاد زائرا بعد غياب عشرون عاما. جملة استشعرت هول حقيقتها عندما حاولت التجول في شوارع المنصورة.
"توريل" الجميلة؛ ببيوتها و ناسها، اختفت وحلت محلها تكوينات خرسانية شديدة القبح دون أي تناسق في الشكل أو الحجم مع الشوارع الضيقة التي كانت يوما وادعة و رحبة حتى انها تشعرك بالامتنان لانك تمشي عليها محفوفا بظل الاشجار على جانبي الطريق. فيلا حسن الإمام (المخرج) تحاول الصمود بطرازها القديم و اطلال حديقتها امام القبح المستشري حولها و الذي أحال سورها الخارجي لمقلب نفايات.

أهل توريل الذين كان تميزهم ورقيهم نابعا من مكانتهم الاجتماعية في مجالات شتى كالتعليم والقضاء والطب لم أجدهم !! مات من مات و رحل من رحل و قبع في بيته من ليس له خيار آخر في مواجهة واقع جديد تسيدت فيه طبقة طفيلية الحي بأكمله جالبة معها أخلاقيات و لغة وممارسات لم تكن يوما موجودة. ليس في الأمر طبقية كما قد يظن البعض. فالتغيير الذي حدث في (توريل) حدث في أحياء المنصورة كلها بدرجات متفاوتة. فقط التباين أوضح في توريل لتميز ما، كان موجودا.

إدراك تغير الواقع عن الصورة الذهنية التى عدت بها عن الوطن استتبع التمهل و إعطاء مزيد من الوقت لمشاهدة الواقع الجديد و محاولة فهم مفرداتة لعلي أستطيع التعامل معه. عام كامل و أنا أحاول فهم ما يجري حتى وصلت إلي ما سميته نظرية "و كأن"

المبنى من الخارج مكتوب عليه مستشفى جامعة المنصورة.... تدخل فتجد من يلبسون البالطو الأبيض ويضعون السماعات حول رقابهم، وآخرين ينامون على أسرّة يلتف حولها أقرباء لهم جاءوهم بالموز والبرتقال من بائع نصب نصبته على سور المستشفى الخارجي و لعلك تكون محظوظا فتجد سيدة تلبس بالطو استحال لونه من الأبيض إلي الرمادي لطول عهده دون غسيل !! في نهاية الأمر تظن أنك في مستشفى. فإذا راقبت ما يحدث لفترة طويلة نوعا، ستكتشف أنه لا الأطباء يمرون على المرضى ولا المرضى يتلقون علاجا ذا قيمة إلا إذا اشتروه على نفقتهم، ولا الممرضة مهتمة بأي مما يحدث لانشغالها بإرضاع طفلتها التي جاءت بها إلى العمل........ و كأنها مستشفى !!

من الخارج تقرأ كلمة مدرسة و احيانا (النموذجية).. تدخل من الباب فتجد ساحة مليئة بأكياس الشيبسي و علب العصير الفارغة يتوسطها صاري على نهايتة علم باهت ممزق الأطراف و تكتشف أن عدد من يفترض أنهم طلبة خارج المدرسة يتجاوز بكثير من هم بالداخل... لا تفارق السيجارة يد أحد منهم... الزي و الطابور و الشنطة من الماضي الذي لم يعد موجودا.... ينتهي اليوم الدراسي قبل ان يبدأ فلا الطلبه يتوجهون الي الفصول ولا المدرسون يبالون بما يحدث .... و كأنها مدرسة !!

هكذا تشكلت في ذهني نظرية "و كأن" و التي انسحبت على كل شيء حتى وصلت بتراكم (كأنها و كأنه) الي ...... و كأنه وطن !!

هنا أدركت (بمرارة) أن ما هو قائم كأنه وطن….. والحق أنه لم يعد موجودا بقدر ما أنا حبيسه كفكرة وزمن مر، لا أمل في عودته..... فعدت الى غربتي مسلما بأنه:

There will be a re-match again & again

خالد جمال
الكويت
يونيو 2008

الثلاثاء، 27 مايو 2008

ضد الغربة

أكتب لأنتقم! أم ضد "الغربة"!

كان من المفترض أن تكون تدوينتي الأولى عن فكرة "الغربة"، التي اقف منها موقف ضد. لكني فكرت أن ابدأ بالتعليق على تدوينة ياسر عن نجيب محفوظ.
لكني أحب بداية ان أوضح انني لا أفهم "الغربة"، ولا شحتفة المغتربين.
أفهم أن يعيش الإنسان في مكان يحبه. أو أن يحب المكان الذي يعيش فيه، وإلا فليصمت أو يرحل. قضيت طفولتي "مغتربا" إذا شئتم. في عمان والإمارات. وعدت إلى مصر في الثانية عشر من عمري. عدت مرة أخرى إلى مسقط في السادسة عشرة، ثم عدت للقاهرة وهكذا.ما بين المكانين. لسنوات.
أحن إلى بيتنا الأول في مسقط الذي أعود لأتأمله كلما زرت مسقط. ما زال هو كما هو. بيت صغير من طابق واحد محاط بحديقة مسورة. لكن شجرة النبق التي زرعتها في عام رحيلي من مسقط، تضخمت ، وأصبحت شجرة عملاقة، كسرت في نشأتها جزءا من سور البيت. كما ان البيت الذي كان ثالث ثلاثة بيوت في ذلك المكان، اصبح نقطة في محيط ، بيت بين بيوت عديدة ، لم أستطع الوصول إليه بسهولة من فرط ازدحام المنطقة بالبيوت والمحال.
ردني إلى بلادي كما تقول الأغنية الوطنية على لسان فيروز. يمكن أن أقول ذلك وفي بطني معنيين: الأول هو بيت المنصورة الذي ولدت فيه والذي هدم مؤخرا وتحول لبناية عملاقة في شارع طلعت حرب بتوريل، أو أن أعود إلى بيت مسقط الذي نشأت فيه واكتسبت الوعي وأنا ادورفيه، واذرع المساحة بين غرفتي والحديقة، اقرأ وأحلم، وافكر في الكون الواسع من حولي الذي يفيض بالجبال، وبالوديان. وأناقش فكرة خلق العالم في ذهني، بعد دروس الدين الأولى، مندهشا من هذه الفكرة العملاقة.
وأنتظر عطلة نهاية الأسبوع حيث تذهب عوائلنا للشاطيء، فأعتزل الجميع واسير لوحدي على امتداد الشاطيء، بلا نهاية، إلى يميني البحر (مياه المحيط)، وإلى يساري الجبل، وعلى الرمال اقتفي آثار الزواحف والثعالب، وأمامي افق لا أعرف كيف ابلغه. ضاربا عرض الحائط بكل شيء، بالأصدقاء وباستنكار أبي الذي سيظل يعنف أمي على "ابنها المنعزل" الذي لا يحب الانخراط اجتماعيا مع الجموع.
في كل مدينة زرتها أسرعت بعمل مجتمع صغير من العلاقات والأماكن التي اتردد عليها بانتظام: مقهى أثير، مكتبة، مول، وفي كل مكان يقترن اسمي بمقهاي الأثير ذاك.. حتى في الزيارات التي لم تتعد شهرا مثل سراييفو او ألمانيا كنت أجلس يوميا على مقهى أثير ولا اغيره، طبعا بعد جولة واسعة على عشرات المقاهي إلى أن أستريح إلى واحد منها. باريس هي المدينة التي لم استطع أن أستقر فيها على مقهى بعينه، لأنني كلما زرت مقهى أعجبني، كما أن مقاهي باريس أكثر من أن تكفيها الأسابيع الثلاثة التي قضيتها فيها.
ربما أن نشاتي بعيدا عن مصر جعلتني دائما أشعر انني بلا مكان. ولعل هذا ما جعلني ايضا أبدو قصيا، نافرا، أنتمي لعزلتي اكثر من انتمائي لمجموعة، مهما بدوت منخرطا واجتماعيا.
وحتى هذه اللحظة لا أملك بيتا. في القاهرة أعيش في بيت مستأجر، وهنا أيضا. والبيت الوحيد الذي كنت أتصوره الملاذ الأخير، وهو بيت المنصورة قد اصبح أثرا لا وجود له سوى في الذاكرة.
لكن هذه الأمور ليست مريرة كما يحب البعض أن يتصوروا، ولا تجعلني أشعر بأنني مقطوع من شجرة أو بلا وطن. بالعكس. مثلي مثل غيري أحب ما يحبه الجميع من ذلك الوطن، وانتمي إلى ما ينتمون.
لكنني ايضا أؤمن أن الوطن كما أتخيل ما يجب أن يكون عليه، بعيد تماما عن صورته الراهنة التي تشوهت إلى ابعد مدى.
لكل هذا وغيره، لا أفهم فكرة "الغربة"، ولا منطقها المرير. لا أستطيع أن أكره الأماكن التي أعيش فيها لأنني أعرف أن مقابل الكثير مما قد ينفرني فيها هناك أماكن يمكنني أن أتآلف معها، ينطبق هذا على المكان الذي اعيش فيه الآن وهنا، كما ينطبق حتى على أكثر الأماكن التي عشت فيها حميمية مثل القاهرة، والمنصورة من قبلها.
وهكذا كان وطني هو تلك الأماكن القليلة الصغيرة التي تتيح لي حيزا يسمح لي أن أقرأ وأتامل وأحلم، وأكتب، واتناول القهوة. أينما وجدت هذه المساحات الصغيرة فأنا في وطني. وأينما ضن عليَّ مكان بمثل هذا الحيز فأنا غريب.
أما عنوان التدوينة فهو يخص فكرة أخرى تعليقا على تدوينة ياسر عن نجيب محفوظ لعلني سأعود إليها في اقرب فرصة.
إبراهيم فرغلي

الأربعاء، 21 مايو 2008

Born to write


واحدة من مزايا"الغربة"، أنك تستطيع متابعة "الوطن" من دون تورط، لا تعود مضطرا للانفعال والمعاناة من حرقة الدم وجمال مبارك مثلا على التليفزيون يشرح سياسات الحزب الاقتصادية وكيف أنها في صالح الفقراء تماما. لست مضطرا للصراخ وأنت تراهم يزورون الانتخابات علانية، وبشكل فاضح، ثم يلومون بقية الأحزاب على أنها لم تشارك في إثراء العملية الديموقراطية، وعلى أنه ليس لها قاعدة شعبية في الشارع. والمؤكد أنك ستستقبل بمنتهى البرود تصريح فاروق حسني، ردا على اتهام واحد من الإخوان وزارة الثقافة أنها تسمح بتوزيع كتب وروايات إسرائيلية في المكتبات، بأن هذا كذب وأنه على استعداد لأن يحرق هذا الكتاب بنفسه لو كان موجودا. ستستقبل هذا التصريح برحابة إنسانية، لن تقول مثل ما قلت في الماضي، لن تهمس بينك وبين نفسك: "حرام والله"، بل وربما ستجد لسيادة الوزير مبررا ما، مبررا فنيا على الأقل، فالميزة الأخرى للابتعاد، ومن ثم الخروج من دائرة التورط، اكتشافك أن كل الشخصيات، التي كنت تتعامل معها على أنها من لحم ودم، ليست كذلك، بل تحولت إلى كائنات روائية تلاعبك طوال الوقت، تطلب منك أن تبحث لها عن المبررات والمواقف والنهايات.
وما الدنيا إلا مسرح كبير. بالطبع، هذه حقيقة بدائية جدا ولا يمكن أن ننسبها إلى يوسف وهبي كاختراع، هو كمن كشف الغطاء عن امرأة عارية، لا يعود إليه الفضل لا في جمالها ولا في الرغبة التي راودتنا لرؤيتها عارية، وليس المقصود هنا التقليل من شأن يوسف وهبي، وإنما فقط أن هذه الجملة حالة واقعية وليست اكتشاف أدبي أو جمالي، جزء من قانون الحياة نفسه، وما أن تشعر بذلك حتى تنطق الجملة وتعرف يقينا أنه لا يمكن لشخص واحد امتلاك حقوقها، وهناك مرحلة لكل واحد فينا يشعر تماما ليس فقط بخشبة المسرح وإنما كذلك بموقعه منها، وهذا التحديد يمنح الشخص راحة وهدوءا لا حد له، لأنه في الحقيقة ليس مطلوبا منك أن تتقن دورك أو تجيد في أداءه، لا توجد درجات على الأداء الجيد، مارسه بالطريقة التي تأتي على هواك، المهم فقط أن تعرف ما هو هذا الدور.
هذه مقدمة طويلة بعض الشيء، وربما لا ترتبط بالموضوع. خاصة وأن الموضوع ، في الأساس، بسيط جدا ولا يحتاج لكل هذا، فعلى الرغم من موضوع عدم التورط هذا، إلا انه في النهاية كلام لا يمكن أن يتحقق مئة في المئة.
على سبيل المثال، وبينما كنت أقلب قنوات التليفزيون وجدت أمامي فجأة مجموعة من الأشباح: طه حسين، أنيس منصور، محمود أمين العالم، يوسف السباعي، نجيب محفوظ، ومجموعة أخرى لم أتمكن من تركيب ملامحها الشبابية تلك على الصور المختزنة لهم في عقلي، منظر في الحقيقة كان في حاجة لاستدعاء فريق Ghost Busters، مشهد شبحي فعلا لم تخفف من حدته تلك المذيعة الكتكوتة الجالسة وسط هؤلاء الوحوش، وحتى عندما تندمج قليلا مع الحديث متناسيا لون الخير والشر الذي يطبع الشاشة أمامك، وملابسهم الستينية المتشابهة وكأن "الحزب الاشتراكي" صرفها لهم قبل التسجيل مباشرة، عندما تنسى كل هذا يأتيك فجأة نباح حاد لكلب، حاد لدرجة أنك تكاد تتخيل أنيابه، وبعد قليل من المتابعة ستتخيل مثلي أن الفظيع طه حسين قد أطلقه على أحد ضحاياه.
لأنه طه حسين، الأسطورة التي يفتخر بها العالم العربي الحديث، التعريف المحلي لقوة الإرادة، بغض النظر عما كتبه، لهذا كان يجلس على كرسي خاص، هي غالبا كانت "الفيللا" الخاصة به، وهذا كرسي العرش، بينما يجلس "الغلابة" الآخرون كيفما اتفق، والمذيعة الكتكوتة تجلس بجواره، بما يردك فورا إلى الجميلة والوحش، خاصة أن المسكينة كانت متصاغرة جدا أمامه، مثل البقية، غير أن أنوثتها كانت تزيد موقفها حرجا، بالنسبة لي على الأقل، ففي ذلك الوقت كانت مسألة: "قم للمعلم وفه التبجيلا"، سائدة جدا وتكاد تكون معتقدا شعبيا، وهذا الرجل ليس مجرد معلم، إنما هو "قاهر الظلام" العظيم.
ربما كان المقصود من بث هذه الحلقة وغيرها، تذاع تلك الحلقات ضمن برنامج عنوانه "من التراث"، تعليم الجمهور من خلال الحوار بين الحاضرين و"العظيم"، وغالبا سيرى الجمهور هذا الحوارجميلا، وفي مقاطع منه يدعو للتأمل، بل وإن الحوار يثير في مجمله الحسرة على ثقافة الزمن الجميل، لكن ومع الاحترام لهذا إلا أنك وأنت تشاهد الحلقة وتتابع ما يحدث لا تملك إلا أن تصرخ "ياخي أحة"، وعذرا لكن فعلا لا توجد جملة مهذبة معبرة.
طه حسين في جالس في مقام الأستاذ، ربما يكون هذا نظريا مفهوم، لكنه على مستوى التطبيق يصبح شيئا منفرا جدا، يوجهون الأسئلة إليه بهذا المنطق، والمذيعة تدير دفة الحوار على أنها التلميذ الذي وكله الأستاذ مهمة مراقبة زملائها حتى لا يستغل أحد منهم عماه.
نهاية الحلقة جاءت خير معبر عن تفاصيلها، وهي تكفي لأوضح ما أقصده، المذيعة طلبت من نجيب محفوظ أن يوجه سؤالا، فهمهم المسكين بما لم نفهم، وأظن أنه كان يقول أنه ليس لديه أسئلة، ويبدو أن هذا لم يعجب طه حسين فقال ساخرا محفوظ الملتزم! وضحك ضحكة ساخرة مبتسرة وهو يضيف ملتزم بالواقعية، ملتزم ببيئته، نظرت المذيعة إلى محفوظ الذي كان ارتباكه واضحا جدان ولم تفلح شامته ونظارته السوداء في إخفاء هذا، وسألته إن كان سيعقب فعادت الهمهمة لتراودنا الشكوك: هل كان محفوظ يعاني مشكل نفسية لتلك الدرجة! تولى الكلام عنه محمود أمين العالم والذي قرر أن يكون التلميذ المنافق فقال وابتسامته لا تترك وجهه أن ما قاله طه حسين يعبر عن اهتمامه بالجيل الجديد وأدبه، ثم قرر العالم أن يأخذ دورا آخر بخلاف النفاق فكان الشرير من نصيبه، قال لطه حسين "نحب أن نسمع رأيك في الإنتاج الأدبي للجيل الجديد". طبعا كان واضحا جدا أن المقصود هو محفوظ بالأساس، وبعد تمنع من طه ومحايلة من العالم انهال الدكتور تقريعا على الجيل الجديد، أنه لا يقرأ بقدر ما يكتب، ولا يعرف لغات أجنبية، ولا يعرف التراث، وغير ذلك من اتهامات تضع الجيل وإنتاجه في خانة المبتدأ الذي لم يرق إنتاجه للحكم عليه بعد، أما محمود العالم فقد أخذ مكافأته على نفاقه فقد استثناه طه حسين من هذا الجيل ومدح كتابا له كان يقرأه.
طه حسين انطلق من مشاكل الجيل الجديد إلى الجمهور بشكل عام قائلا أن التلفزيون والراديو والمسرح يمنعوا الناس من القراءة والتثقف، ويبدو أن الكلام عن الجيل بتلك الطريقة قد استفز البعض، كان أشجعهم يوسف السباعي الذي نزل الساحة متحديا، تحدث عن أن تلك الوسائل يمكن اعتبارها وسائل نشر، أي أنها يمكن أن تكون أدوات تثقيف، ورد طه حسين بأنهم طلبوا منه في الراديو إحدى قصصه لقراءتها، ولم نفهم هل تلك موافقة على ما قاله السباعي أم أنها الرغبة في الهرب من المناقشة كلها، وربما التعب لأنه قال للمذيعة قبل ذلك بدقائق بأن هذا القدر يكفي.
عموما.. انتهت الحلقة بشكل مفاجئ، لا أعلم إن كانت قد انتهت بالفعل أم أنهم رأوا في القناة الثقافية أن ذلك القدر مناسب كما رأى طه حسين. ولم يعد أمام من شاهدها سوى التفكير في مصائر ضيوفها بعد ذلك، على رأسهم الصامت نجيب محفوظ الذي كان يتصرف بمنطق: أكتب لأنتقم.
إذن صحيح..
يبدو أنه حل مثالي فعلا.

ياسر عبد الحافظ

الأربعاء، 14 مايو 2008

لولا الأحلام


لولا الأحلام

نصحني صديقي اللدود بأن أرى الناس و الأشياء (من بره ) حتى أنفلت من نطاق التورط ، لم أقتنع بوجاهة فكرته في البداية حتى قمت بتنفيذها بالفعل ، كدت أنجح في ذلك تماما لولا (الأحلام ) المزمنة التي تطاردني فتعيدني لنفس الأماكن والأحداث .

شيء آخر كان يعكر صفو الانطلاق والرؤية البرانية ، وهو أوقات العودة الفعلية والالتقاء بنفس الأشخاص .

لكنني وجدت طريقة أخرى لعدم التورط من جديد في حياة لم أرغبها منذ البدء ، التعاطف الخارجي ، والفرار السريع .

علي أن أعترف أن محاولات خروجي المستمرة ، البعد والكلام من بره الحدث كانت قديمة ومتكررة ، أفضلها على الإطلاق هو السفر والإقامة الدائمة بعيدا جدا ، بعيدا بُعد مسافة الطائرة والأمكنة والأحداث والأشخاص الجدد ، وحتى اللهجة المختلفة ، ونمط الحياة المغاير تماما .

سأركب الطائرة للمرة الأولى ، وأتعرف على عشرات الأشخاص الجدد .
ستفاجئني وتسعدني "الكوفي شوب " كانت من أوائل الأشياء التي كتبت لك عنها ، أخبرتك عن العمالة الآسيوية فيها "هنود وفلبين " وقليل من الجنسيات العربية .

منذ الولوج الأول تفاجئني التحية وكأنني أدخل بيت صديق حميم ، يلاقيني بالشوق والترحاب ، ابتسامة تملأ الوجه ، ونبرات صافية مرحبة " hi mam" " good evening mam" الجميع يقومون بالتحية وكأنني ضيف شرف ، أنت أيضا سعدت بذلك حين حضرت إلى هنا للمرة الأولى _ في الإسكندرية . كنت ومازلت تصاب بالضيق الشديد من مطاردة الندل لنا حين نتمشى على الشاطئ كل يحاول إجبارنا على الجلوس في مقهاه .

" مقهى كولومبوس " كان مكاني المفضل في البداية ، بموقعه المرتفع بعدة سلالم رخامية ، وإطلالته الخارجية في الهواء ، على الشارع الرئيسي ، أحب متابعة السائرين في الشارع ، أشعر بالونس من رؤية الناس ، تمنيت كثيرا أن تكون معي لتشاركني تلك الجلسات ، خاصة في فبراير حيث الجو الربيعي والنسمات الجميلة ، الأضواء والألوان ، المحال والسائرين ، معظمهم يحمل الأكياس البلاستيكية الملونة تعبيرا عن ثقافة الـ" shopping " طابع المكان المميز .

هنا لن تكون للعباءات والأشمغة السيطرة على المشهد ، بل الوافدين " لبنانيون وسورييون ومصريون ، أمريكان وأجانب آخرون ، آسيويون " الملابس مودرن ، الوجوه باسمة ، والأحاديث ودية ، بعض الأيادي المتاشبكة ، والمساحات المكشوفة من الجسد كثيرة ومتنوعة .

" فرابتشينو " " كابتشينو " " موكا " " كافيه لاتيه " قائمة من أسماء المشروبات الغريبة ، تعرفت فيها على " الكابتشينو " فاخترته مباشرة ، الحديث طوال الوقت باللغة الإنجليزية ، أو " العربية الكويتية الآسيوية " التي لم أكن أفقه فيها شيئا فكنت أختار الإنجليزية ، أحمل طلبي وأعود لطاولتي في الخارج " thank you mam " ، أسعدني اللقب كثيرا ، ربما كان بشرة خير لاقتراب زواجي وحصولي على لقب " مدام " ، هذا اللقب الذي كان يمنحه لي البائعون في الأسواق الشعبية .

أصبحت أحمله رسميا الآن ، لقبا آخر لم أحبه أبدا ، يناديني به السائق الصعيدي " محمد " وحارس السكن " عادل " ، " الأبلة جيهان " ، لكنني أجد أهمية الحفاظ عليه ، للإبقاء على بعض الحدود الهامة في التعامل .

إذن صحيح

" للغربة منطقها الخاص ، وقوانينها أيضا "

الأبلة جيهان
السالمية / الكويت