الأربعاء، 21 مايو 2008

Born to write


واحدة من مزايا"الغربة"، أنك تستطيع متابعة "الوطن" من دون تورط، لا تعود مضطرا للانفعال والمعاناة من حرقة الدم وجمال مبارك مثلا على التليفزيون يشرح سياسات الحزب الاقتصادية وكيف أنها في صالح الفقراء تماما. لست مضطرا للصراخ وأنت تراهم يزورون الانتخابات علانية، وبشكل فاضح، ثم يلومون بقية الأحزاب على أنها لم تشارك في إثراء العملية الديموقراطية، وعلى أنه ليس لها قاعدة شعبية في الشارع. والمؤكد أنك ستستقبل بمنتهى البرود تصريح فاروق حسني، ردا على اتهام واحد من الإخوان وزارة الثقافة أنها تسمح بتوزيع كتب وروايات إسرائيلية في المكتبات، بأن هذا كذب وأنه على استعداد لأن يحرق هذا الكتاب بنفسه لو كان موجودا. ستستقبل هذا التصريح برحابة إنسانية، لن تقول مثل ما قلت في الماضي، لن تهمس بينك وبين نفسك: "حرام والله"، بل وربما ستجد لسيادة الوزير مبررا ما، مبررا فنيا على الأقل، فالميزة الأخرى للابتعاد، ومن ثم الخروج من دائرة التورط، اكتشافك أن كل الشخصيات، التي كنت تتعامل معها على أنها من لحم ودم، ليست كذلك، بل تحولت إلى كائنات روائية تلاعبك طوال الوقت، تطلب منك أن تبحث لها عن المبررات والمواقف والنهايات.
وما الدنيا إلا مسرح كبير. بالطبع، هذه حقيقة بدائية جدا ولا يمكن أن ننسبها إلى يوسف وهبي كاختراع، هو كمن كشف الغطاء عن امرأة عارية، لا يعود إليه الفضل لا في جمالها ولا في الرغبة التي راودتنا لرؤيتها عارية، وليس المقصود هنا التقليل من شأن يوسف وهبي، وإنما فقط أن هذه الجملة حالة واقعية وليست اكتشاف أدبي أو جمالي، جزء من قانون الحياة نفسه، وما أن تشعر بذلك حتى تنطق الجملة وتعرف يقينا أنه لا يمكن لشخص واحد امتلاك حقوقها، وهناك مرحلة لكل واحد فينا يشعر تماما ليس فقط بخشبة المسرح وإنما كذلك بموقعه منها، وهذا التحديد يمنح الشخص راحة وهدوءا لا حد له، لأنه في الحقيقة ليس مطلوبا منك أن تتقن دورك أو تجيد في أداءه، لا توجد درجات على الأداء الجيد، مارسه بالطريقة التي تأتي على هواك، المهم فقط أن تعرف ما هو هذا الدور.
هذه مقدمة طويلة بعض الشيء، وربما لا ترتبط بالموضوع. خاصة وأن الموضوع ، في الأساس، بسيط جدا ولا يحتاج لكل هذا، فعلى الرغم من موضوع عدم التورط هذا، إلا انه في النهاية كلام لا يمكن أن يتحقق مئة في المئة.
على سبيل المثال، وبينما كنت أقلب قنوات التليفزيون وجدت أمامي فجأة مجموعة من الأشباح: طه حسين، أنيس منصور، محمود أمين العالم، يوسف السباعي، نجيب محفوظ، ومجموعة أخرى لم أتمكن من تركيب ملامحها الشبابية تلك على الصور المختزنة لهم في عقلي، منظر في الحقيقة كان في حاجة لاستدعاء فريق Ghost Busters، مشهد شبحي فعلا لم تخفف من حدته تلك المذيعة الكتكوتة الجالسة وسط هؤلاء الوحوش، وحتى عندما تندمج قليلا مع الحديث متناسيا لون الخير والشر الذي يطبع الشاشة أمامك، وملابسهم الستينية المتشابهة وكأن "الحزب الاشتراكي" صرفها لهم قبل التسجيل مباشرة، عندما تنسى كل هذا يأتيك فجأة نباح حاد لكلب، حاد لدرجة أنك تكاد تتخيل أنيابه، وبعد قليل من المتابعة ستتخيل مثلي أن الفظيع طه حسين قد أطلقه على أحد ضحاياه.
لأنه طه حسين، الأسطورة التي يفتخر بها العالم العربي الحديث، التعريف المحلي لقوة الإرادة، بغض النظر عما كتبه، لهذا كان يجلس على كرسي خاص، هي غالبا كانت "الفيللا" الخاصة به، وهذا كرسي العرش، بينما يجلس "الغلابة" الآخرون كيفما اتفق، والمذيعة الكتكوتة تجلس بجواره، بما يردك فورا إلى الجميلة والوحش، خاصة أن المسكينة كانت متصاغرة جدا أمامه، مثل البقية، غير أن أنوثتها كانت تزيد موقفها حرجا، بالنسبة لي على الأقل، ففي ذلك الوقت كانت مسألة: "قم للمعلم وفه التبجيلا"، سائدة جدا وتكاد تكون معتقدا شعبيا، وهذا الرجل ليس مجرد معلم، إنما هو "قاهر الظلام" العظيم.
ربما كان المقصود من بث هذه الحلقة وغيرها، تذاع تلك الحلقات ضمن برنامج عنوانه "من التراث"، تعليم الجمهور من خلال الحوار بين الحاضرين و"العظيم"، وغالبا سيرى الجمهور هذا الحوارجميلا، وفي مقاطع منه يدعو للتأمل، بل وإن الحوار يثير في مجمله الحسرة على ثقافة الزمن الجميل، لكن ومع الاحترام لهذا إلا أنك وأنت تشاهد الحلقة وتتابع ما يحدث لا تملك إلا أن تصرخ "ياخي أحة"، وعذرا لكن فعلا لا توجد جملة مهذبة معبرة.
طه حسين في جالس في مقام الأستاذ، ربما يكون هذا نظريا مفهوم، لكنه على مستوى التطبيق يصبح شيئا منفرا جدا، يوجهون الأسئلة إليه بهذا المنطق، والمذيعة تدير دفة الحوار على أنها التلميذ الذي وكله الأستاذ مهمة مراقبة زملائها حتى لا يستغل أحد منهم عماه.
نهاية الحلقة جاءت خير معبر عن تفاصيلها، وهي تكفي لأوضح ما أقصده، المذيعة طلبت من نجيب محفوظ أن يوجه سؤالا، فهمهم المسكين بما لم نفهم، وأظن أنه كان يقول أنه ليس لديه أسئلة، ويبدو أن هذا لم يعجب طه حسين فقال ساخرا محفوظ الملتزم! وضحك ضحكة ساخرة مبتسرة وهو يضيف ملتزم بالواقعية، ملتزم ببيئته، نظرت المذيعة إلى محفوظ الذي كان ارتباكه واضحا جدان ولم تفلح شامته ونظارته السوداء في إخفاء هذا، وسألته إن كان سيعقب فعادت الهمهمة لتراودنا الشكوك: هل كان محفوظ يعاني مشكل نفسية لتلك الدرجة! تولى الكلام عنه محمود أمين العالم والذي قرر أن يكون التلميذ المنافق فقال وابتسامته لا تترك وجهه أن ما قاله طه حسين يعبر عن اهتمامه بالجيل الجديد وأدبه، ثم قرر العالم أن يأخذ دورا آخر بخلاف النفاق فكان الشرير من نصيبه، قال لطه حسين "نحب أن نسمع رأيك في الإنتاج الأدبي للجيل الجديد". طبعا كان واضحا جدا أن المقصود هو محفوظ بالأساس، وبعد تمنع من طه ومحايلة من العالم انهال الدكتور تقريعا على الجيل الجديد، أنه لا يقرأ بقدر ما يكتب، ولا يعرف لغات أجنبية، ولا يعرف التراث، وغير ذلك من اتهامات تضع الجيل وإنتاجه في خانة المبتدأ الذي لم يرق إنتاجه للحكم عليه بعد، أما محمود العالم فقد أخذ مكافأته على نفاقه فقد استثناه طه حسين من هذا الجيل ومدح كتابا له كان يقرأه.
طه حسين انطلق من مشاكل الجيل الجديد إلى الجمهور بشكل عام قائلا أن التلفزيون والراديو والمسرح يمنعوا الناس من القراءة والتثقف، ويبدو أن الكلام عن الجيل بتلك الطريقة قد استفز البعض، كان أشجعهم يوسف السباعي الذي نزل الساحة متحديا، تحدث عن أن تلك الوسائل يمكن اعتبارها وسائل نشر، أي أنها يمكن أن تكون أدوات تثقيف، ورد طه حسين بأنهم طلبوا منه في الراديو إحدى قصصه لقراءتها، ولم نفهم هل تلك موافقة على ما قاله السباعي أم أنها الرغبة في الهرب من المناقشة كلها، وربما التعب لأنه قال للمذيعة قبل ذلك بدقائق بأن هذا القدر يكفي.
عموما.. انتهت الحلقة بشكل مفاجئ، لا أعلم إن كانت قد انتهت بالفعل أم أنهم رأوا في القناة الثقافية أن ذلك القدر مناسب كما رأى طه حسين. ولم يعد أمام من شاهدها سوى التفكير في مصائر ضيوفها بعد ذلك، على رأسهم الصامت نجيب محفوظ الذي كان يتصرف بمنطق: أكتب لأنتقم.
إذن صحيح..
يبدو أنه حل مثالي فعلا.

ياسر عبد الحافظ

ليست هناك تعليقات: